بينما كان المعتمد بن عبّاد يتحرق أسىً ولوعةً على صديقه·· الذي أمضى ليلة معه ثم اختفى عند تباشير الصباح·· جاءه الحراس يحملون حصيراً مطوياً، وجدوا فيه حركة، مما أكد لهم أن مصدر هذه الحركة إنما هو جسم لإنسان·· ونفضوا الحصير أمام المعتمد الذي أصابته الدهشة حينما رأى ابن عمّار يتوسل إليه، طالباً منه الرحمة:
ـ كيف دخلت في هذا الحصير يا ابن عمّار؟!
ـ الرحمة يا مولاي·· بحق السماء لا تقتلني!!
ـ أقتلك!!·· أنا أقتلك يا صديقي؟!!
ـ إذن·· لم السيف في يدك؟!
ـ إنما خرجت به لأقتل من مسّك بشرّ·· تعال يا ابن عمّار·· ما حملك على هذا الاعتقاد؟! تعال يا صديقي إلى الغرفة·· تعال··
وبعد أن دخلا إلى إحدى صالات القصر، وكانا بمفرديهما·· أراد المعتمد أن يخفف عمّا
ألمّ بصديقه: ـ إنك ترتعد·· اجلس·· والآن وقد هدأت نفسك·· بالله حدثني، ما الذي حملك على هذا؟!
ـ أخفيت نفسي في الحصير كي لا يراني أحد وأنا أسعى إلى البحر كي أغادر إلى شمال أفريقيا!!
ـ ولمَ يا صديقي؟!
ـ حلم رأيته·· كلما سربلني النوم، رأيت شبحاً يقترب مني، وينصحني بالهروب، ويحذرني منك فرأيت أن أهرب قبل أن يلحق بي غضبك، وتقتلني!!
ـ أنا أقتلك يا أبا بكر؟! كيف أقتلك؟! أرأيت أحداً يقتل نفسه؟! وهل أنت عندي إلا نفسي··؟! عُد إلى وسادتك يا رفيق الصبا، ودع عنك أضغاث الأحلام!!
ولما علمت اعتماد الرمكية بما حدث، أزعجها ذلك الاهتمام الزائد على الحد الذي يبديه زوجها نحو صديقه!!
فعاتبت المعتمد أن يتركها طوال الليل، ويقضيه بمنادمة صديقه ابن عمّار!!
فيقول لها زوجها:
ـ يكاد ابن عمّار أن يهلك نفسه في شؤون إدارة البلاد·· والله لولا سياسته مع ألفونسو الإسباني لضاعت قرطبة··!!
ـ وما يدريك ما يدبّر في الخفاء مع ألفونسو؟!
ـ الخفاء؟!·· أبو بكر ابن عمّار··؟! الذي مال دولتنا كله بين يديه·· لا يا حبيبة القلب·· إنه··
ـ ما عدت أرى لك حبيباً غير ابن عمّار هذا!!
ـ أنت زوجتي·· ريحانة القلب، وهو صديقي، وإلف شبابي، وصاحب ملاعب صباي·· وأقسم لك أنه دائماً يذكرك بأجمل أشعاره··
ـ ما دمت تثق به كل هذه الثقة، أرسله في جيشٍ يفتح لك "مرسية" التي في أيدي الإسبان، فإن فتحها، فثبته والياً عليها··
ـ يبدو أنك تودين أن يقتل ابن عمّار في مواجهته للإسبان، ولكنني أؤكد لكِ أنه سيفتح ( مرسية)·
ويصدر ابن عبّاد أوامره إلى صديقه أن يخرج لفتح مرسية التي اغتصبها ألفونسو، وينجح الشاعر الفارس فيما ظنّته اعتماد الرمكية أنه لن ينجح فيه··
وما أن تصير مرسية في يده حتى يثبته المعتمد حاكماً عليها··
وقد كتب له في هذا التعيين أبياتاً:
تغيّر لي فيمن تغيـر "حـارث" ... وكل خليل غيّرتـه الحـوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... نعمنا وما بيني وبينـك ثالـث
فأجابه ابن عمّار، الذي قرر ألا يعود إلى إشبيلية بأبيات تنبئ عن رغبته هذه:
لك المثل الأعلى وما أنا "حارث" ... ولا أنا ممن غيّرتـه الحـوادث
ولا شاركته الشمس فـيّ وإنـهل ... ينأى بخطى منك ثـان وثالـث
فديتك ما للبشر لم يسـر برقـة ... ولا نفحت تلك السجايا الدمائـث
أظن الذي بيني وبينـك أذهبـت ... حلاوته عنّي، الرجال الخبائـث
وهل أنا إلا عبد طاعتـك التـي ... إذا مت عنها قام بعدي وارث؟!
ولكن المعتمد لم يكف عن دعوة صديقه إلى العودة·· ولم يكف ابن عمّار عن اعتذاراته·· وقد كثرت بينهما القصائد المتبادلة، حتى يرتكب ابن عمّار خطأً هو أبشع ما يمكن أن يرتكبه صديق في حق صديقه··
* فابن عمّار، بعد أن خاض غمار الحياة، ونجح فيها نجاحاً ملحوظاً في إدارة دفة الأمور السياسية والمعارك الحربية، ناهيك عمّا حققه من سمعةٍ طيبة في الشعر والأدب، أخذت نفسه تسوّل له أنه هو الذي لديه القدرة على تثبيت الحكم القوي في الأندلس،
وظنّ أن حكمه لمرسية التي افتتحها سيحقق له ما تطمح إليه نفسه: "إن المعتمد ابن عبّاد شاعر وأنا شاعر·"
* لكنه يتعثّر عندما تأتيه هذه الحقيقة عن المعتمد، وهي أنه سليل ملوك، وهذا ما يقض مضجعه·· فليس لأسلافه من نصيب في شيوع الذكر، ولا عراقة الأصل·· فكانت نار الغيرة تتأجج في صدره، وتوشك أن تنسيه أيادي المعتمد التي امتدت إليه··
لكن المعتمد بعث إليه يوماً بقصيدة يمتدحه فيها باعتباره خرج من بيئة غير كريمة كما جاء في هذه الأبيات:
الأكثريـن مسـوّداً ومملكـا ... ومتوجاً في سالف الأعصـار
المكثرين من الكبار لنارهـم ... لا يوقدون بغيـره للسـاري
والمؤثرين على العيال بزادهم ... والضاربين لهامـة الجبـار
لما نماهـم للعـلا عمّارهـم ... تركوا العداوة قصيرة الأعمار
فهذه الأبيات تنهش في صدر ابن عمّار، ويراها تعريضاً، وسخرية بأهله·· لكنه يدرك بقرارة نفسه أن المعتمد لو كان لا يحبه، لما قبل أن يثبته على مرسية··
لعبت المقادير لعبتها، عندما أصرّ المعتمد على ابن عمّار أن يعود إلى إشبيلية، لكن هذا الأخير قد تمسك بالولاية على مرسية لأنه كان يعتقد جازماً أن الرمكية تترصده وتخطط لإزالته، ولو ذهب إلى إشبيلية فلن تدعه يخرج منها حياً··
ولهذا فقد عقد العزم أن يتمرد على المعتمد بن عبّاد، حتى وإن اقتضى الأمر أن تكون المواجهة بينهما حربية··
وبدأ اتصالاته بقادة قوات الأمراء الذين كانوا يعادونه بالأمس، والذين أشبعهم هجاءً في شعره·· لكنه الخوف الذي يكرسه بداخله ذلك الشبح، من أن صديقه سيقتله بيده··
·· ومرةً أخرى يلح المعتمد على صديقه في العودة إلى إشبيلية بعد أن عيّن على مرسية والياً جديداً، ويكون أمر المعتمد هذه المرة، متسماً ببعض الشدة، فيفقد الغضب والخوف ابن عمّار اتزانه، وينسيه حبه لصديقه، وينطلق لسانه في مجلس من مجالسه بقصيدة بالغة العنف موجعة الهجاء، سبّ فيها المعتمد وزوجته الرمكية وأولادهما سبّاً قبيحاً، لا يليق بمنزلة الشاعر ولا بإنسانية الحاكم والصديق··
ويقرأ المعتمد بن عبّاد تلك الأبيات:
ألا حيّ بالغرب حياً حلالاًأناخوا جمالاً وحازوا جمالا
وعرّج بيومين "أم القـرى"ونم فعسى أن تراها خيـالا
تخيرتها من بنات الهجـانرمكية ما تسـاوي عقـالا
فجاءت بكل قصير العـذارلئيم النجارين عمّاً وخـالا
قصـار القـدود ولكنهـمأقاموا عليها قروناً طـوالا
سأهتك عرضك شيئاً فشيئاًوأكشف سترك حالاً فحالا
حزن ابن عبّاد حزناً شديداً لما آل إليه أمر صديقه من خيانة العهد والتنكر للصداقة·· وقال: أما إنه لو تعرض لي لعفوت عنه بحق الأيام السالفة·· ولكنه تطاول على أولادي وزوجتي:
جراحات السنان لها التئامو لا يلتام ما جرح اللسان
ثم يأمر ابن اللبّانة قائد جنده أن يخرج بجيش لجب، وأن يأتي بابن عمّار مقيداً·
ويدخل به ابن اللبّانة إلى مجلس المعتمد ذليلاً مهاناً، جمعت يداه إلى عنقه بقيدٍ من ليف، وعليه جلباب بائع شعير··
وجعل المعتمد يطرح السؤال تلو السؤال، ويعدد عليه أياديه ونعمه·· ثم يسأله:
ـ أكذبت عليك في شيء مما قلت يا ابن عمّار؟!
ـ والله ما كذب غيري يا مولاي·· ولست أنكر شيئاً مما ذكرت·· أبقاك الله، ولو أنكرته لشهدت عليّ به الجمادات فضلاً عمن ينطق!!
ـ فماذا؟!
ـ عثرت، فأقل·· وزللت فاصفح··!!
ـ هيهات يا ابن عمّار·· هيهات·· إنها عثرة لا تقال!!
ـ أهو القتل يا مولاي؟!
ـ فإن كان؟!
ـ فاقتلني بيدك·· فهكذا رأيتك في الحلم تفعل!! وهذا ما كان يردده عليّ الشبح··
ـ لبئس ما تطلب مني·· خذوه إلى السجن، حتى أنظر في أمره··
ويسجن ابن عمّار في غرفة بالقصر الذي شهد مجده أيام حظوته عند المعتمد·· وطال سجنه·· وكثر ما كتب إلى المعتمد من رسائل الاستعطاف حتى كان آخرها:
سجاياك إن عافيت أندى وأسجحوعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بيـن الخطتيـن مزيـةفأنت إلى الأدنى من الله تجنـح
حنانيك في أخذي برأيك لا تطععدايا ولو أثنوا عليّ وأفصحـوا
فإن رجائي أن عندك غيـر مـايخوض عداي اليوم فيه ويمرحوا
أقلني بما بيني وبينك من رضـاًلـه نحـو روح الله بابـاً يفتّـح
ولا تلتفت قول الوشاة ورأيهـمفكل إنـاءٍ بالـذي فيـه ينضـح
ويرقّ قلب المعتمد لصديقه ويذهب لزيارته في سجنه، وتكون خلوة يتذاكر الصديقان فيها أيامهما الحلوة·· ولياليهما الصافية·· ويبكي كل منهما على صدر صاحبه·· ويخرج المعتمد متأثراً بعد أن عقد العزم بقرارة نفسه أن يعفو عن صاحبه·· ولم يشر له بذلك صراحةً، ولكنه أوحى إليه بإيحاءات تدل على نيته، وطلب إليه أن يتفاءل خيراً·· وأن يكتم أمر زيارته له·
لكن ابن عمّار يستخفه الطرب، فيكتب إلى صاحب له في القصر بما دار بينه وبين السلطان· إلا أن حاشية الملوك أكثر الناس حساسيةً لاتجاهات ريح السياسة·· وكان الجميع في القصر يدركون أن شمس ابن عمّار قد أفلَت، فذهب ذلك الصديق بالورقة التي جاءته من ابن عمّار وهو في سجنه·· ليسلمّها إلى ابن اللبّانة ـ الوزير الجديد ـ الذي ذهب هو بدوره إلى المعتمد مصطنعاً الغضب، حيث فاجأ المعتمد بقوله:
ـ يا مولاي·· قد جئت أرجو السماح لي بمغادرة إشبيلية!!
ـ لمَ يا ابن اللبّانة؟!
ـ لأقيل نفسي قبل أن تستغني عن خدماتي··
ـ ويحك أيها الوزير!! أأنا قلت لك هذا؟!
ـ كلا يا مولاي··
ـ فمن إذن··؟!
ـ وزيرك الكبير أبو بكر بن عمّار!!
ـ ابن عمّار في السجن، فكيف جاءك أنه قال هذا··؟!
ـ أرسل من سجنه بهذه الورقة إلى بعض أصحابه، يقول فيها إن مولانا قد وعده بالعودة إلى مركزه أقوى مما كان، وعندها فسوف ينتقم من كل أعدائه!! ولا أظنه سينسى يا مولاي أنني جئت به مكبّلاً مهزوماً من مرسية··
ـ صه·· صه·· فإن لي عينين أقرأ بهما·· إذن فلم يحسن حتى أن يحفظ سره وسري··!!
ثم يقوم المعتمد وبيده هراوة حديدية·· مسرع الخطى وقد استبدّ به الغضب والحنق حتى إذا كان في غرفة السجن صاح:
ـ يا ابن عمّار·· هل أخبرت أحداً بما كان بيني وبينك عندما زرتك هنا··؟!
ـ حاشا أن أفعل يا مولاي··!!
ـ ولكن بهذا أخبرني من لا أتهم، ولا أشك في صدقهم!!
ـ كذبوك·· يا مولاي·· أقسم برأسك أنهم كذبوك··
ـ أولم تكتب إلى بعض أصحابك أنني عفوت عنك، وسأعيدك إلى الوزارة··؟!
ـ يا مولاي·· أقسم بحبي لك أنني لم أفعل ما يفترون به عليّ··
ـ فما تقول في هذه الورقة وهي بخطّك والكلام كلامك··؟!
فينهار ابن عمّار باكياً··
ـ أقلني يا مولاي، إنها آخر زلة!!
ـ والله ما أقيلك أبداً·· لقد رأيت في منامك أنك تموت بيدي·· وقد صدق هاتفك أيها الخبيث··
وفي غضبٍ جارف هوت الهراوة الحديدية المرة بعد الأخرى على رأس ابن عمّار·· ولم يكف المعتمد عن الضرب العنيف، وكأنه قد انتابته حالة هستيرية وهو يضربه، إلا بعد أن صار السجين جثةً هامدة··
وحين أفاق المعتمد بن عبّاد إلى نفسه، انكفأ على جثة صديقه، وأخذ يبكي وينشج،
وفقدت الأندلس شاعرها الكبير أبا بكر بن عمّار الذي قتلته هواجسه·· والعقد المترسبة في داخله، حيال صديقٍ أحبه، وأخلص له الودّ