ثالثاً : دعوى حرية التعبير لا تجيز الإساءة لأحد :
إن ادعاء صحيفة (Jyllands-Posten ) حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة من محمد رسول الله، ادعاءٌ غير مسلَّم ولا مقنع ، لأن جميع دساتير العالم ومنظماته تؤكد على احترام الرسل ، وعلى احترام الشرائع السماوية ، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بينة .
وقد جاء في ميثاق شرف المجلس العالمي للفيدرالية الدولية للصحفيين ما نصه :
( على الصحفي التنبه للمخاطر التي قد تنجم عن التمييز والتفرقة اللذين قد يدعو إليهما الإعلام، وسيبذل كل ما بوسعه لتجنب القيام بتسهيل مثل هذه الدعوات التي قد تكون مبنية على أساس عنصري أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المعتقدات السياسية وغيرها من المعتقدات أو الجنسية أو الأصل الاجتماعي.
ـ سيقوم الصحفي باعتبار ما سيأتي على ذكره على أنه تجاوز مهني خطير : الانتحال،التفسير بنية السوء، الافتراء، الطعن، القذف، الاتهام على غير أساس، قبول الرشوة سواء من أجل النشر أو لإخفاء المعلومات.
ـ على الصحافيين الجديرين بصفتهم هذه أن يؤمنوا أن من واجبهم المراعاة الأمينة للمبادئ التي تم ذكرها. ومن خلال الإطار العام للقانون في كل دولة ) .
ولذلك حين نطالب الصحيفة والحكومة الدنماركية بالاعتذار وبمنع تلك الإساءات لاحقاً فإننا نعتمد أيضاً على ميثاق صحفي شريف ، جاء فيه : ( سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد بأنها غير دقيقة على نحو مسيء ) .
ولا شك أن ما نشرته صحيفة (Jyllands-Posten ) الدنماركية مسيءٌ لأكثر من مائتي ألف من مواطني الدنمارك ، ومسيء لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون شخص ، ومعهم غيرهم من المنصفين من أصحاب الملل الأخرى ، كلهم يعظمون رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام ، وسيبقى ذلك العمل مسيئاً لكل المسلمين ما بقيت هذه الحياة على وجه الأرض ، وستبقى الدنمارك ـ إذا لم تعالج هذه الإساءة ـ مصدر قرف واشمئزاز من عقليات تقطن فيها ، وتعادي الرسل والشرائع السماوية وتسخر بها .
رابعاً : هذا الاستهزاء لا يخدم مصالح الدنمارك ولا مصالح أوروبا :
إن العقلاء في البلاد الغربية النصرانية ينبغي أن يدركوا كم في تلك الكلمات والاستفزاز من الأخطار الكبيرة على رعاياهم ومصالحهم في أقطار الأرض ، بل وفي بلدانهم ، وأنها قد تؤدي لمزيد التوتر ، بما يتعين معه الكف عن هذا الغيِّ والبهتان .
فقد تأخذ الحميةُ بعض المتحمسين للثأر ممن وقع في رسول رب العالمين ، ومئات الملايين يفرحون أن يموتوا دفاعاً عن نبيهم وعن مكانته الشريفة أن تمتهن . ولكن من ضمن هؤلاء من لا يَقْدِر أن يصفِّي حسابه مع من استهزأ وقال الإفك والبهتان لبُعده عنه ؛ فيعمد إلى من يراهم يدينون بالنصرانية حوله فينتقم منهم ومن ممتلكاتهم لقربه منهم ، مع أن هذا العمل الأخير لا يجوز ، وقد حرمه ومنع منه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فقال : " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة " رواه البخاري .
والمراد بالمعاهد : من له عهد مع المسلمين ، سواء كان بعقد جزية أو هُدنة من سلطان ، أو أمانٍ من مسلم ، ويدخل في ذلك ما له صلةٌ بالأعراف الديبلوماسية التي التزمت بها الدول وتعارفت عليها .
وأعمال التحريض والاستفزاز تلك ستؤدي إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح ومزيد الاضطراب والتوتر .
ونذكر في هذا المقام بالقرار الذي تبنته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ، ( بتاريخ 3/3/1426 هـ - الموافق12/4/2005 م ) الداعي إلى محاربة تشويه الأديان ، لاسيما الإسلام ، الذي زادت وتيرة تشويهه في الأعوام الأخيرة .
خامساًً : أين الحكماء من النصارى ؟
أذكِّر الشعب الدنمركي ، وغيره من الشعوب النصرانية ، وغيرهم من أمم الأرض ، أذكرهم جميعاً بالمواقف السابقة لأسلافهم من النصارى ، وكيف كان تعاملهم مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كان موقفهم حضارياً حكيماً متعقلاً ، بعيداً عن التشنجات النفسية أو الانحرافات الأخلاقية ، فكانت عاقبة أمرهم إلى خير ، في الدنيا ، أو في الدنيا والآخرة .
فقد بعث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم رسائل إلى كِسرى ملك الفرس وإلى قيصر ملك الروم ، وكلاهما لم يُسْلِم ، لكنَّ قَيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكرم رسوله ، فثَبَتَ ملكُه ، واستمر في الأجيال اللاحقة ، وأما كِسرى فمزَّق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستهزأ برسول الله ، فقتله الله بعد قليل ، ومزَّق مُلكَه كلَّ مُمَزَّق ، ولم يبق للأكاسرة ملكٌ .
وقد ذكر المؤرخون كيف كانت ملوك النصارى يعظِّمون ذلك الكتاب الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا يقول الإمام العالم الحافظ ابن حجر : ذكر السهيليُ أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له ، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة ، ثم كان عند سِبطه ، فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب ، فلما رآه استعبر ، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع .
ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب ، فأخرج منه مقلمة ذهب ، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثر حروفه ، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير ، فقال : هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ، ما زلنا نتوارثه إلى الآن ، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا ، فنحن نحفظه غاية الحفظ ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا " انتهى .
ثم أَمَا للشعب الدنمركي النصراني وغيرهم من النصارى أسوةٌ بالملك النصراني النجاشي ملك الحبشة ، فإنه لما قرأ عليه الصحابي جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ صدراً من سورة مريم بكى النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ، حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا ـ واللهِ ـ والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . رواه الإمام أحمد في "المسند".
ولقد نقل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحاه الله إليه في القرآن الكريم من ثناء الله جل وعلا على أولئك النصارى الذي صدقوا في دينهم وفي أمانتهم ، وهو قول الله في القرآن الكريم : ( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) [ سورة المائدة : 83].
ونذكر الشعب الدنمركي وقادة الرأي والمثقفين فيه والقائمين على صحيفة ( جيلاندز بوستن ) نذكرهم بما قاله أحد علمائنا ، وهو الإمام أحمد ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قال : " وما زال في النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة من له مزية على غيره في المعرفة والدين ، فيعرف بعض الحق ، وينقاد لكثير منه ، ويعرف من قَدْرِ الإسلام وأهله ما يجهله غيره ، فيعاملهم معاملة تكون نافعةً له في الدنيا والآخرة " .
سادساً: الاستهزاء بالأنبياء مسلك الأشرار :
إن تلك الإساءة التي نشرتها صحيفة ( جيلاندز بوستن ) لم تخرج عن طريقة أصحاب المناهج الشريرة ، الذين الذي حاربوا الأنبياء والمصلحين ، وهذا ما أخبرنا الله به عنهم في القرآن الكريم : فقال تعالى : ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) [آل عمران : 184] .
وقال سبحانه عن اليهود : ( كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) [المائدة : 70] .
وقال الله عزَّ وجلَّ : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ . وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) [الأنعام : 33 و 34].
سابعاً : المؤذون للأنبياء توعدهم الله بالانتقام :
لقد كانت صحيفة (Jyllands-Posten , ) ومحرروها في عافية من دنياهم وانهماك في شهواتهم قبل أن يتعمدوا الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم بما نشروه وكتبته أيديهم قد أدخلوا أنفسهم ومن تواطأ معهم في الوعيد الإلهي المسطر في القرآن الكريم : (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) [الكوثر : 3] أي : إنَّ مبغضك يا محمد ، ومبغض ما جئتَ به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين ( هُوَ الأَبْتَرُ ) : الأقل الأذل المنقطع كل ذِكرٍ له .
فهذه الآية تعم جميع من اتصف بهذه الصفة من معاداة النبي صلى الله عليه وسلم أو سعى لإلصاق التهم الباطلة به ، ممن كان في زمانه ، ومن جاء بعده إلى يوم القيامة .
وفي هذا يقول أحد علمائنا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه ، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول ، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك،ثم يفتح المكان عنوة ، ويكون فيهم ملحمة عظيمة ، قالوا : حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه ، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه " انتهى.
والأيام بيننا وبين أولئك المبطلين المستهزئين ، لننظر من تكون له العاقبة ، ومن الذي يضل سعيه ، ويكذب كلامه ، وتظهر للعالمين أباطيله وافتراءاته ، فقد قالها أمثالهم ، فلمن كانت العاقبة ؟ وأين آثارهم وأين مثواهم ؟ قال الله جل شأنه في القرآن الكريم : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [التوبة : 61] ، وقال الله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) [الأحزاب : 57] .
وقال الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
" ومن سُنة الله أن من لم يُمكن المؤمنين أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإنَّ الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه ، كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكتاب المفترى ، وكما قال الله سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) [الحجر : 94 و 95].
والقصة في إهلاك الله المستهزئين واحداً واحداً معروفة ، قد ذكرها أهلُ السِّيَر والتفسير.
وهذا والله أعلم تحقيق قوله تعالى : (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) [الكوثر : 3] ؛ فكُلُّ من شَنَأَهُ أو أبغضه وعاداه فإنَّ الله تعالى يقطع دابره ، ويمحق عينه وأثره .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : " يقول الله تعالى : من عادى لي ولياً ، فقد بارزني بالمحاربة " فكيف بمن عادى الأنبياء ؟ ومن حَارَبَ الله تعالى حُرِبَ .
وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أُهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول ، أو العمل .
وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذِّلة وباؤوا بغضِبٍ من الله ، ولم يكن لهم نصير ؛ لقتلهم الأنبياء بغير حق ، مضموماً إلى كفرهم ، كما ذكر الله ذلك في كتابه .
ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يَتُبْ إلا ولا بد أن يصيبه الله بقارعة .