الأساس الثاني: إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم.
يرسخ القرآن الكريم مبدأ الإخاء الإنساني بإباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، وتصل الإباحة إلى درجة الاستحباب عند الحاجة، وإلى درجة الوجوب عند الاضطرار.
وأدلة إباحة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم كثيرة متعددة ومنها ما يأتي:
أ ـ قوله تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) .(27)
ولا شك أن التعارف لا يمكن أن يصل إلى الدرجة الكاملة إذا تبعه تعاون وتعامل.
ب ـ قوله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (28)
ومن البديهي أن أكل طعام أهل الكتاب والتزوج بنسائهم لا يمكن وضعها في حيز التنفيذ إلا إذا كان هناك تعاون وتعامل بينهم وبين المسلمين، وهما في نفس الوقت وسيلة من الوسائل التي توسع دائرة التعاون بين المسلمين وغيرهم.
جـ ـ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما يدل على تعامله مع غير المسلمين.
ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال: ( توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ) .(29)
وفيه أيضاً: عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان(30)طويل بغنم يسوقها، فقال صلى الله عليه وسلم بيعاً أم عطية ـ أو قال: أم هبة ـ فقال: لا بيع فأشتري منه شاة(31).
قال ابن حجر: قال ابن بطال: معاملة الكافر جائزة إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين(32).
وقد شرح القرآن الكريم عدة عقود تسهم في توسيع دائرة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، ورغبة منه في إيجاد عالم تسوده المحبة والوئام وترفرف عليه رايات الأمن والسلام.
وهذه العقود هي: المعاهدات وعقد الذمة، وعقد الأمان.
المعاهدات:
الأصل في شرعية المعاهدات قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم).(33)قوله تعالى: ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين). (34)
وقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود بعد قدومه إلى المدينة، ومعاهدة مع مشركي قريش في السنة السادسة للهجرة.
ويشترط في صحة المعاهدات ثلاثة شروط(35).
أولها: أن لا تمس المعاهدة قانون الإسلام الأساسي وشريعته العامة التي بها قوام الشخصية الإسلامية.
ثانيها: أن تكون بينة الأهداف، واضحة المعالم، تحدد الالتزامات تحديداً لا يدع مجالاً للتأويل والتخريج واللعب بالألفاظ.
ثالثها: أن تكون مبنية على التراضي من الجانبين.
وقد أمر القرآن الكريم الم المسلمين بالوفاء والاستقامة على المعاهدات التي أبرموها مع غيرهم طالما كانوا مستقيمين لهم، قال تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين). (36)
وتجلى تقديره الكامل للمعاهدات في نهيه عن قتل من استحق القتل من غير المسلمين إذا لجأ إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
قال تعالى: (واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق).(37)
كما تجلى تقديره للمعاهدات في نهيه المسلمين عن نصرة بعض المسلمين الذين آمنوا ولم يهاجروا إذا استنصروا بهم على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (38)
وهذا لا يعني ترك المسلمينالمقيمين تحت سلطان غير المسلمين نهياً للعدوان والاضطهاد، بدليل قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).(39)
غاية الأمر أن الميثاق يقيد حركة المسلمين بعض الشيء، بحيث يجب عليهم إعلان المعاهدين المعتدين على المسلمين المقيمين بين أظهرهن بنبذ الميثاق إذا أصروا على عدوانهم.
ويتأكد نبذ الميثاق بتعديهم على أي إنسان شملته المعاهدة حتى ولو كان من الكافرين المعاهدين للمسلمين.
لذلك رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يسارع بنصرة خزاعة حينما اعتدى عليها بنو بكر وحلفاؤهم من مشركي قريش، لأن خزاعة كانت قد خلت في عقد رسول الله وعهده، أما بنو بكر فدخلوا في عقد قريش وعهدهم، بناء على الشرط المشروط في صلح الحديبية.
عقد الذمة:
عقد الذمة يسهم إسهاماً فعالاً في توسيع دائرة التعاون والتعامل بين المسلمين وغيرهم، لأنه يتيح للفريقين الاختلاف والتقارب والتواصل، وبالتالي: يرسخ مبدأ الإخاء الإنساني بينهما.
ويقصد بعقد الذمة العقد الدائم الذي تم بين السلطة الحاكمة وغير المسلمين والذي تترتب عليه حقوق كل منهما على الآخر.
والذمة معناها:العهد والأمانة والكفالة والحق والحرمة(40)،ويطلق على من يعقد معهم هذا العقد من غير المسلمين ( أهل الذمة ) أو ( الذميين ) لأن لهم بناء على هذا العقد ـ عهداً بأن يعيشوا في كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين.
فقد كفل الإسلام لهم حقوقاً متعددة، منها حماية دمائهم وأعراضهم وأموالهم وكرامتهم، وحريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية وشؤونهم المعيشية، وحقهم في تولي الوظائف والمناصب العامة إلا ما غلب عليه الوصف الديني كالإمامة وقيادة الجيش والقضاء، وغير ذلك من الوظائف التي لها صبغة دينية، وحقهم في كفالة الدولة لهم عند العجز والمرض والفقر، وحقهم في مقاضاة المسلم أياً كان وضعه في المجتمع.
والأصل في هذه الحقوق قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة، وإن ريحها توجد في مسيرة أربعين عاماً ) .(41)
وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفون فوق طاقتهم ) (42).
وجاء في عهده رضي الله عنه إلى أهل بيت المقدس: ( هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم ).(43)
وفي مقابل هذه الحقوق التي كفلها الإسلام لأهل الذمة يجب عليهم الولاء للدولة الإسلامية،واحترام نظمها وتشريعها سواء أكانت مدنية أم جنائية، أما قوانين الأحوال الشخصية فيتبعون فيها ما يعتقدونه ديناً لهم لصلتها بأصل التدين الذي كفل الإسلام حريته.
ومما يجب عليهم أيضاً احترام مشاعر المسلمين، وعدم التعرض لمقدساتهم، وأداء الجزية المفروضة عليهم مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين.
فإن اشتركوا مع المسلمين في الدفاع عن الدولة، أو لم يستطع المسلمون حمايتهم فإن الجزية تسقط عنهم إن كانوا يدفعون ما يدفعه المسلمون لإقامة المرافق العامة التي يتمتع الجميع بمردودها الخدمي.
ولذلك كان المسلمون يستثنون من أداء الجزية المسكين الذي يتصدق عليه، والمرأة والصبي والشيخ الفاني والمجنون والمعتوه والرهبان وكل من ليس أهلاً للقتال، أو كان أهلاً له ولكنه لا يستطيع لفقره أن يدفع ما عليه.(44)
وكانوا يترفقون بأهل الذمة ويخفضون عنهم في تحصيل الجزية، فإن عجز عنها أحدهم أعانوا فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي عما له بعدم تحميل أهل الذمة ما لا يطيقون من الجزية.(45)
وهو الذي رأى شيخاً ضريراً يسأل على باب، فسأل، فعلم أنه يهودي، فقال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله وأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال: انظر هذا وضرباءه، فو الله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إنما الصدقات للفقراء والمساكين(46). وهذا من مساكين أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه(47).
وقد اقتدى به حفيده عمر بن عبد العزيز فكتب إلى واليه على البصرة: ( وأنظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ) . (48)
ومما كتبه خالد بن الوليد رضي الله عنه لنصارى الحيرة بالعراق ( وجعلت لهم ) أيما شيخ ضعفت عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله(49).
وفي ضوء ما سبق يتبين أن تشريع الجزية لا يقصد به إهانة غير المسلمين أو إذلالهم بسبب عدم قبولهم الإسلام. وقوله تعالى: ( عن يد ) الوارد في قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).(50)
معناه: عن قدرة وسعة والصغار يقصد به خضوعهم لأحكام الإسلام، وقبولهم الحياة تحت سلطان المسلمين وحمايتهم، أو أن الصغار جزاء مرتب على محاربة المحاربين منهم، وليس مرتباً على بقائهم على دينهم.
وبهذا يظهر بطلان سائر التزيدات المبتدعة في طريقة تحصيل الجزية، ومعاملة أهلها، وهي التزيدات التي تتضمن إهانتهم وإذلالهم.
وقد نقل ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني بعض هذه التزيدات ثم أوضح أن عمل الصحابة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كان على خلال ذلك، وأنهم كانوا يتواصون باستحصال هذا الحق بالرفق واللطف.(51)
ولهذا عقد أبو عبيد في كتابه الأموال باباً بعنوان( اجتباء الجزية والخراج وما يؤمر به من الرفق بأهلها وينهى عنه من العنف عليهم فيها ) .(52)
بل إن الجزية ليست هدفاً في حد ذاتها، ولكنها وسيلة لتوسيع دائرة التعاون والتعامل بين الناس جميعاً حتى يترسخ مبدأ الإخاء الإنساني فترفرف على العالم رايات الأمن والسلام، وتسوده المحبة والوئام.
لذلك رأينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل أن تسمى الجزية بغير اسمها بعد أن قيل له: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية.(53)