فهذه كلمات قليلات سابغات خفيفاتٌ ثقيلاتٌ، آخذاتٌ معطياتٌ، ألقت بها التجاربُ الغابرات،الباعث منها الحرقة على الولد في زمن تعذر فيه المربي وغاب المعين وانقطع السير وتباعد الرفيق وإن القلب ليتفطر ألما وحزنا حينما نرى أن أبناءنا تولى بهم غيرنا فترى ابن العالم في الغي راتع؛ فكيف بابن العامي الجاهل, ولعلك تتعجب ممن نجا كيف نجا .
في زمن عظم فيه العمى وازدادت وحشة الظلام، وكدورة الجهل، وصفاء المعرفة، واختيال الظلم، وتواضع العدل، وشحِّ المعروف، وسخاءِ المنكر، وتخبط الحليم وجنون الجاهل وترفع الوضيع ووضاعة الرفيع ..
فكتبت رسالة لولدي تأسيا بمن قبلي وجعلتها لكل ابن من أبناء المسلمين فخذها بقوة ولا تعدو عيناك عنها من والدك المشفق الحنون لتنير بها دربك وتعرف بها قدرك عند ربك.
اعلم - يا بني - وفقك الله للصواب أنه لم يتميز الآدمي بالعقل إلاّ ليعمل بمقتضاه ، فاستحضر عقلك ، وأعمل فكرك واخل بنفسك؛ تعلم بالدليل أنك مخلوق مكلف ! وأن عليك فرائض أنت مطالب بها، وأن الملكين يحصيان ألفاظك، وأن أنفاس الحي خطاه إلى أجله 0 ومقدار اللبث في الدنيا قليل والحبس في القبور طويل ، والعذاب على موافقة الهوى وبيل !
فأين لذة أمس ؟ أظنها رحلت وأبقت ندماً !
و أين شهوة النفس ؟ كم نكست رأساً وأزلت قدماً !!!
وما سعد من سعد إلا بخلاف هواه، ولا شقي من شقي إلا بإيثار دنياه. فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد. أين لذة هؤلاء وأين تعب أولئك ؟
والكسل عن الفضائل بئس الرفيق ، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذة فانتبه واتعب لنفسك !
واعلم أن أداء الفرائض واجتناب المحارم لازم، فمتى تعدى الإنسان فالنار النار ! ثم اعلم أن طلب الفضائل نهاية مراد المجتهدين، ثم الفضائل تتفاوت، فمن الناس من يرى الفضائل الزهد في الدنيا، ومنهم من يراها التشاغل بالتعبد ، وعلى الحقيقة فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل ، فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه فتلك الغاية المقصودة . والله المستعان .
أي بُني: وفقك الله ورعاك وسدَّدَ على درب الهدى خطاكَ.
وسلام عليك يوم ولدت، وفي كل يوم من أيام عمرك الماضي بالطاعة والتقوى، وهداك الله ويسرك لليسرى, ويوم تموت، ويوم تبعث يوم القيامة حياً.
أي بُني:
الذي بتُّ أُشْفِق عليه من نفسه، وأُريده أن يكون له غَلَبةً عليها في الشدة والرخاءِ، في المكره والمنشط، في السَّقم والعافية فلا يُعْثِره طمعٌ، ولا يستذلُّه أملٌ، ولا يستدرجه سرابٌ يبنى بالطاعة، ويسعَدُ بالمعروف، وتُحزنه المعصية ويُنْهزه الرجاءُ فيما عند الله ، ولا يضعف همته إلا الأملُ فيما عند الناس، وهو في منزلة بين المنزلتين، بين الرجاء في رحمة ربه يرجوها، وبين الخشية من عذاب الله يَحذَرُه.
وقفت على باب الله فأعزني، ونظرت في وجوه الناس مستبصراً فعلمت أن أحسَنَ الحُسْن أن لا ترى عِزَّتك إلا في الخضوع إليه، وإن لا ترى غناك إلا في الافتقار إليه، وأن لا ترى قوتك إلا بتفويض أمرك كلِّه إليه.
فخُذ عني ما علَّمَتْني السنون، ولا تبخل عن نفسك أن تُصْغي إلى كلماتي، فتصيب بها خيراً يدني إليك البعيد، ويسهِّل عليك العسر الشديد، وتجمع بها بين الطارف والتَّليد، والله سبحانه من قبلُ ومن بعدُ إليه الأمر كلُّه، وهو الفعَّال لما يريد.
انتبه يا بني - لنفسك واندم على ما مضى من تفريطك واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة ، واسق غصنك ، ما دامت فيه رطوبة ، واذكر ساعتك التي ضاعت فكفى بها عظة ، وذهبت لذة الكسل فيها ، وفاتت مراتب الفضائل .
وقد كان السلف الصالح - رحمهم الله - يحبون جمع كل فضيلة ويبكون على فوت واحدة منها .
واعلم يا بني - أن الأيام تبسط ساعات ، والساعات تنبسط أنفاساً، وكل نفس خزانة ، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم .
ولست أملك لك من أمرك إلا دعواتٍ -أرجو الله أن تكون طيِّبات صالحات مقبولات- أتقرَّب بها إلى ربي، وأرجو بها إدناءَ رحمته، بأن أكون بشفاعة نبيِّه يوم لا تكون الشفاعة إلا بإذنه، فلتصغ إليها، ولتحفظ منها ما استطعت، فإنها -وربِّي- من خير ما كتبتُ وسطَّرت، مشت معي عقود حياتي، وأخذت عليَّ طرائق نفسي، وأظهرتني على سرِّي وعلانيتي، وأسلمتني إلى الرضا بما قضى فيَّ ربي، فلا زلت -أي بُني- في عافية الرضا الإلهي.
ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدة طويلة، فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج منها رأى مدة طويلة ، وعلم أن اللبث في القبر طويل ، فإذا تفكر في يوم القيامة علم أنه خمسون ألف سنة ، فإذا تفكر في اللبث في الجنة والنار علم أنه لا نهاية له ، فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا فرضنا ستين سنة مثلاً فإنه يمضي منها ثلاثين سنة في النوم ، ونحو حمس عشرة في الصبّا فإذا حسب الباقي كان أكثره الشهوات والمطاعم والمكاسب ، فإذا أخلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيراً
...
بقلم
( '•.¸(`'•.¸ ¸.•'´)¸.•'´)
«´¨`•.¸¸.*¤* فضيلة الشيخ صلاح الدين بن علي *¤*.¸¸.•´¨`»
(¸.•'´(¸.•'´ `'•.¸)`'•.¸)